الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وهذا يتضمن أن المسرف كفور للنِّعم.قوله تعالى: {وإِما تعرضَنَّ عنهم} في المشار إِليهم أربعة أقوال.أحدها: أنهم الذين تقدَّم ذِكْرُهم من الأقارب والمساكين وأبناء السبيل، قاله الأكثرون، فعلى هذا في علَّة هذا الإِعراض قولان.أحدهما: الإِعسار، قاله الجمهور.والثاني: خوف إِنفاقهم ذلك في معصية الله، قاله ابن زيد.وعلى هذا في الرحمة قولان.أحدهما: الرزق، قاله الأكثرون.والثاني: أنه الصلاح والتوبة، هذا على قول ابن زيد.والثاني: أنهم المشركون، فالمعنى: وإِما تعرضَنَّ عنهم لتكذيبهم، قاله سعيد بن جبير.فتحتمل إذًا الرحمة وجهين.أحدهما: انتظار النصر عليهم.والثاني: الهداية لهم.والثالث: أنهم ناس من مُزينة جاؤوا يستحملون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «لا أجد ما أحملكم عليه، فبكَوا» فنزلت هذه الآية، قاله عطاء الخراساني.والرابع: أنها نزلت في خبَّاب، وبلال، وعمَّار، ومِهجَع، ونحوهم من الفقراء، كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجد ما يعطيهم، فيُعرض عنهم ويسكت، قاله مقاتل.فعلى هذا القول والذي قبله تكون الرحمة بمعنى الرِّزق.قوله تعالى: {فقل لهم قولًا ميسورًا} قال أبو عبيدة: ليِّنًا هيِّنًا، وهو من اليُسْر.وللمفسرين فيه ثلاثة أقوال.أحدها: أنه العِدَة الحسنة، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد.والثاني: أنه القول الجميل، مثل أن يقول: رزقنا الله وإِياك، قاله ابن زيد؛ وهذا على ما تقدّم من قوله.والثالث: أنه المداراة لهم باللسان، على قول مَن قال: هم المشركون، قاله أبو سليمان الدمشقي؛ وعلى هذا القول، تحتمل الآية النسخ.قوله تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولة إِلى عنقك} سبب نزولها: أن غلامًا جاء إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال، إِن أُمِّي تسألك كذا وكذا، قال: «ما عندنا اليوم شيء، قال: فتقول لك: اكْسُني قميصك، قال: فخلع قميصه فدفعه إِليه، وجلس في البيت حاسرًا» فنزلت هذه الآية، قاله ابن مسعود.وروى جابر بن عبد الله نحو هذا، فزاد فيه، فأذَّن بلال للصلاة، وانتظروه فلم يخرج، فشغل قلوب الصحابة، فدخل عليه بعضهم، فرأوه عُريانًا، فنزلت هذه الآية، والمعنى: لا تمسك يدك عن البذل كلَّ الإِمساك حتى كأنها مقبوضة إِلى عنقك، {ولا تبسطها كلَّ البسط} في الإِعطاء والنفقة {فتقعُدَ ملومًا} تلوم نفسك ويلومك الناس، {محسورًا} قال ابن قتيبة: تَحْسِرُكَ العطيةُ وتقطعك كما يَحْسِرُ السفر البعيرَ فيبقى منقطعًا به.قال الزجّاج: المحسور: الذي قد بلغ الغاية في التعب والإِعياء، فالمعنى: فتقعدَ وقد بلغتَ في الحَمْل على نفسك وحالك حتى صِرتَ بمنزلة من قد حَسَر.قال القاضي أبو يعلى: وهذا الخطاب أُريدَ به غيرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه لم يكن يدَّخِرُ شيئًا لغدٍ، وكان يجوع حتى يشُدَّ الحجَر على بطنه، وقد كان كثير من فضلاء الصحابة ينفقون جميع ما يملكون، فلم ينههم الله، لصحة يقينهم، وإِنما نهى من خِيف عليه التحسُّر على ما خرج من يده، فأما من وثق بوعد الله تعالى، فهو غير مراد بالآية.قوله تعالى: {إِن ربَّك يبسُط الرِّزق لمن يشاء ويقدر} أي: يوسع على من يشاء ويضيِّق، {إِنه كان بعباده خبيرًا بصيرًا} حيث أجرى أرزاقهم على ما علم فيه صلاحهم. اهـ.
.قال القرطبي: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)} فيه ثلاث مسائل:الأولى قوله تعالى: {وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ} أي كما راعيت حق الوالدَيْن فصِل الرحم، ثم تصدّق على المسكين وابن السبيل.وقال عليّ بن الحسين في قوله تعالى: {وآتِ ذا القُرْبَى حَقّه} هم قرابة النبيّ صلى الله عليه وسلم، أمر صلى الله عليه وسلم بإعطائهم حقوقَهم من بيت المال، أي من سهم ذَوِي القربى من الغَزْوِ والغنيمة، ويكون خطابًا للولاة أو من قام مقامهم.وألحق في هذه الآية ما يتعين من صلة الرحم، وسَدّ الخَلّة، والمواساة عند الحاجة بالمال، والمعونة بكل وجه.الثانية قوله تعالى: {وَلاَ تُبَذِّرْ} أي لا تُسرف في الإنفاق في غير حق.قال الشافعيّ رضي الله عنه: والتبذير إنفاق المال في غير حقه، ولا تبذير في عمل الخير.وهذا قول الجمهور.وقال أشهب عن مالك: التبذير هو أخذ المال من حقه ووضعُه في غير حقه، وهو الإِسراف، وهو حرام لقوله تعالى: {إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين} وقوله: {إخوان} يعني أنهم في حكمهم؛ إذ المبذِّر ساعٍ في إفساد كالشياطين، أو أنهم يفعلون ما تسوّل لهم أنفسهم، أو أنهم يُقرَنون بهم غدا في النار؛ ثلاثة أقوال.والإخوان هنا جمع أخٍ من غير النسب؛ ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} [لحجرات: 10].وقوله تعالى: {وَكَانَ الشيطان لِرَبِّهِ كَفُورًا} أي احذروا متابعته والتشبه به في الفساد.والشيطان اسم الجنس.وقرأ الضحاك: {إخوان الشيطان} على الانفراد، وكذلك ثبت في مصحف أنس بن مالك رضي الله عنه.الثالثة من أنفق ماله في الشهوات زائدًا على قدر الحاجات وعَرّضه بذلك للنفاد فهو مبذّر.ومن أنفق رِبْح ماله في شهواته وحَفِظ الأصل أو الرقبة فليس بمبذّر.ومن أنفق درهمًا في حرام فهو مبذّر، ويُحجر عليه في نفقته الدرهم في الحرام، ولا يحجر عليه إن بذله في الشهوات إلا إذا خيف عليه النفاد.{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)} فيه ثلاث مسائل:الأولى: وهو أنه سبحانه وتعالى خصّ نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابتغآء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا}.وهو تأديب عجيب وقول لطيف بديع؛ أي لا تعرض عنهم إعراض مستهين عن ظهر الغنى والقدرة فتَحْرِمهم.وإنما يجوز أن تُعرض عنهم عند عجزٍ يَعْرِض وعائق يعوق، وأنت عند ذلك ترجو من الله سبحانه وتعالى فتح باب الخير لتتوصل به إلى مواساة السائل، فإن قعد بك الحال فقُلْ لهم قولًا ميسورًا.الثانية: في سبب نزولها؛ قال ابن زيد: نزلت الآية في قوم كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأبَى أن يعطيَهم؛ لأنه كان يعلم منهم نفقة المال في فساد، فكان يُعرض عنهم رغبة في الأجر في منعهم لئلا يعينهم على فسادهم.وقال عطاء الخراسانِيّ في قوله تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابتغآء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا} قال: ليس هذا في ذكر الوالدين، جاء ناسٌ من مُزَيْنَة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يستحملونه؛ فقال: «لا أجد ما أحملكم عليه فتوَلَّوْا وأعينُهم تَفِيض من الدمع حَزَنًا» فأنزل الله تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابتغآء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا} والرحمة الفَيْءُ.الثالثة: قوله تعالى: {فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا} أمره بالدعاء لهم، أي يَسِّر فقرهم عليهم بدعائك لهم.وقيل: ادع لهم دعاءً يتضمّن الفتح لهم والإصلاح.وقيل: المعنى {وإما تعرضن} أي إن أعرضت يا محمد عن إعطائهم لضيق يدٍ فقل لهم قولًا ميسورًا؛ أي أحسن القول وابسط العذر، وادع لهم بسعَة الرزق، وقل إذا وجدتُ فعلتُ وأكرمتُ؛ فإن ذلك يعمل في مَسَرّة نفسه عمل المواساة.وكان عليه الصلاة والسلام إذا سئل وليس عنده ما يُعطِي سكت انتظارًا لرزق يأتي من الله سبحانه وتعالى كراهة الردّ، فنزلت هذه الآية، فكان صلى الله عليه وسلم إذا سئل وليس عنده ما يعطي قال: «يرزقنا الله وإياكم من فضله» فالرحمة على هذا التأويل الرزق المنتظر.وهذا قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة.والضمير في {عنهم} عائد على من تقدّم ذكرهم من الآباء والقرابة والمساكين وأبناء السبيل.و{قولا ميسورا} أي ليّنًا لطيفًا طيبًا، مفعول بمعنى الفاعل، من لفظ اليسر كالميمون، أي وعدًا جميلًا، على ما بيناه ولقد أحسن من قال:تقول: يَسّرت لك كذا إذا أعددته.{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)} فيه أربع مسائل:الأولى: قوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ} هذا مجاز عبّر به عن البخيل الذي لا يقدر من قلبه على إخراج شيء من ماله؛ فضرب له مثل الغَلّ الذي يمنع من التصرف باليد.وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مَثَل البخيل والمتصدّق كمثل رجلين عليهما جُبّتَان من حديد قد اضطرت أيدِيهَما إلى ثُديِّهمَا وتَراقِيهما فجعل المتصدِّق كلما تصدّق بصدقة انبسطت عنه حتى تَغْشَى أنامِلَه وتَعْفُوَ أثره وجعل البخيلُ كلما همّ بصدقة قَلَصت وأخذت كلُّ حَلْقة بمكانها.قال أبو هريرة رضي الله عنه: فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأصبعيه هكذا في جيْبه فلو رأيته يُوَسِّعها ولا توسّع.الثانية: قوله تعالى: {وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} ضرب بَسْطَ اليد مثلًا لذهاب المال، فإن قبض الكف يحبس ما فيها، وبسطها يذهب ما فيها.وهذا كله خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، وكثيرًا ما جاء في القرآن؛ فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما كان سيّدَهم وواسطتهم إلى ربّهم عَبّر به عنهم على عادة العرب في ذلك.وأيضًا فإنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يدّخر شيئًا لغد، وكان يجوع حتى يشدّ الحجر على بطنه من الجوع.وكان كثير من الصحابة ينفقون في سبيل الله جميع أموالهم، فلم يعنّفهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليهم لصحة يقينهم وشدّة بصائرهم.وإنما نهى الله سبحانه وتعالى عن الإفراط في الإنفاق، وإخراج ما حَوَتْه يده من المال مَن خِيف عليه الحسرة على ما خرج من يده، فأما من وثق بموعود الله عز وجل وجزيل ثوابه فيما أنفقه فغير مراد بالآية، والله أعلم.وقيل: إن هذا الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم في خاصّة نفسه، علّمه فيه كيفية الإنفاق، وأمره بالاقتصاد.قال جابر وابن مسعود: جاء غلام إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إن أمّي تسألك كذا وكذا فقال: «ما عندنا اليوم شيء» قال: فتقول لك اكْسُنِي قميصَك؛ فخلع قميصه فدفعه إليه وجلس في البيت عُريانًا وفي رواية جابر: فأذّن بلال للصلاة وانتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج، واشتغلت القلوب، فدخل بعضهم فإذا هو عار؛ فنزلت هذه الآية.وكل هذا في إنفاق الخير.وأما إنفاق الفساد فقليله وكثيره حرام، كما تقدّم.الثالثة: نهت هذه الآية عن استفراغ الوجد فيما يطرأ أوّلًا من سؤال المؤمنين؛ لئلا يبقى من يأتي بعد ذلك لا شيء له، أو لئلا يضيّع المنفِق عياله.ونحوُه من كلام الحكمة: ما رأيت قطُّ سَرَفًا إلا ومعه حق مضيَّع.وهذه من آيات فقه الحال فلا يُبيَّن حكمها إلا باعتبار شخص شخص من الناس.الرابعة: قوله تعالى: {فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} قال ابن عرفة: يقول لا تسرف ولا تُتلف مالك فتبقى محسورًا منقطعًا عن النفقة والتصرف؛ كما يكون البعير الحسير، وهو الذي ذهبت قوته فلا انبعاث به؛ ومنه قوله تعالى: {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 4] أي كليل منقطع.وقال قتادة: أي نادمًا على ما سلف منك؛ فجعله من الحسرة؛ وفيه بُعْدٌ؛ لأن الفاعل من الحسرة حَسِر وحسران ولا يقال محسور.والملوم: الذي يلام على إتلاف ماله، أو يلومه من لا يعطيه. اهـ. .قال أبو حيان: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)} لما أمر تعالى ببر الوالدين أمر بصلة القرابة.قال الحسن: نزلت في قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم، والظاهر أنه خطاب لمن خوطب بقوله: {إمّا يبلغنّ عندك الكبر} وألحق هنا ما يتعين له من صلة الرحم، وسد الخلة، والمواساة عند الحاجة بالمال والمعونة بكل وجه.
|